ثلاثية علمية في خدمة الحديث النبوي: قراءة في إصدارات مركز مناهل للدراسات والأبحاث وإحياء التراث

يواصل مركز مناهل للدراسات والأبحاث وإحياء التراث ترسيخ حضوره العلمي في خدمة الحديث النبوي وعلومه من خلال دعم البحوث المتخصصة وإصدار الأعمال التي تُسهم في تجديد النظر في هذا الحقل وإغنائه. وفي هذا الإطار، تصدر وحدة الدراسات الحديثية بالمركز ثلاثة كتب جديدة للباحث المتمرس الدكتور أشرف مرادي، تمثل إضافة معتبرة إلى الخزانة الحديثية ومشتغليها، لما تنطوي عليه من معالجة أصيلة لقضايا العلل والترجيح وطرائق التحمل والأداء، مع استحضار المنهج النقدي عند المتقدمين وحسن الإفادة من تراثهم.

يشكّل الكتاب الأول منعطفًا تأسيسيًا في الدرس المصطلحي المتعلق بعلل الحديث، حيث يعمد مؤلفه إلى تتبّع مصطلحات الإعلال واستكشاف دلالاتها من خلال الدراسة المتأنية لأحكام الإمام أبي زرعة الرازي (ت 264هـ)، أحد أبرز أعلام هذا الفن، الذين تدور عليهم رحى علم العلل ويُحتكم إلى آرائهم في معرفة دقائق الرواية. ويتوخّى البحث الإجابة عن سؤال منهجي محوري: كيف وظّف أبو زرعة الرازي مصطلحات التعليل في تقويمه للأحاديث النبوية؟ وقد اختار المؤلف معالجة هذا السؤال من خلال مسارين متكاملين؛ أولهما مسار تأصيلي يحرّر المفاهيم والمصطلحات المنتقاة بدقة، وثانيهما مسار تطبيقي يقوم على دراسة أمثلة مستقاة من المسائل التي وجهت إلى الإمام، مع الوقوف عند الأحاديث المشكلة فيها وتحليل طرائق نقده لها، بما يفضي إلى الكشف عن الدلالات العملية لمصطلحات التعليل في منهجه.

أما الكتاب الثاني، فيتجه وجهةً أخرى لا تقل أهمية، إذ يتناول قضية الترجيح بين الأوجه المختلفة للحديث النبوي، وهي قضية تقوم من أساسها على القرائن التي يستند إليها النقاد عند النظر في الروايات المتعارضة أو المشتبهة. وهذه القرائن – كما يبين المؤلف – ليست محددة بحد جامع مانع، ولا منضبطة بقواعد كلية تشمل جميع الأحاديث، وإنما تُفهم وفق منهج المتقدمين الذين اعتمدوا غلبة الظن وبنوا أحكامهم على مجموع ما يتبيّن لهم من ملابسات تحف بكل حديث على حدة. وتبرز أهمية هذا العمل فيما يشير إليه المؤلف من أن غالب الدراسات المعاصرة التي حاولت بيان منهج المحدثين في اعتماد القرائن قد استمدت نماذجها ومصطلحاتها من كتب الفقه وأصوله، دون مراعاة للخصوصية العلمية والمنهجية التي تميّز علم الحديث. ومن هنا تأتي قيمة هذا الكتاب الذي يعود بالبحث إلى أصوله المعرفية داخل الصناعة الحديثية ذاتها، ويطبّق ذلك على نماذج مستمدة من أجوبة الإمام أبي زرعة كما وردت في كتاب العلل لعبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي (ت 327هـ)، وفي سؤالات أبي عثمان سعيد بن عمرو البرذعي (ت 292هـ)، مما يمنحه بعدًا تأصيليًا وتطبيقيًا في آن واحد.

ويأتي الكتاب الثالث ليشدّ أزر العملين السابقين، فهو مرجع مركزي في بيان طرق تحمّل الحديث النبوي وكيفيات أدائه، لما ينطوي عليه من جمع محكم وهيكلة منهجية لما تفرّق من مسائل هذا الباب في كتب المصطلح القديمة. وقد أحسن المؤلف استقراء المدوّنة الحديثية وجمع ما تشتت من مباحث الأشباه والنظائر، ثم ضمّها في سياق واحد يكشف مراتب هذه الطرق ودرجاتها وصيغها، مما يجعله معينًا لا غنى عنه لطالب العلم والمتخصص على حد سواء. وتبرز أهمية هذا الجهد في قدرته على تقديم رؤية شمولية متماسكة لآليات انتقال الحديث وأدائه، في إطار منهجي يذلّل صعوبة هذا الفن على المبتدئ، ويمنح الباحث إطارًا أوسع لفهم بنية الرواية.

وبهذه الأعمال الثلاثة، يخطو الدكتور أشرف مرادي خطوة واثقة في خدمة علوم الحديث، مقدّمًا نماذج بحثية تجمع بين الدقة في التحقيق، والرصانة المنهجية، والوعي بخصوصية المدرسة النقدية عند المتقدمين. وإن مركز مناهل للدراسات والأبحاث وإحياء التراث إذ يهنئ الباحث على هذه الإصدارات العلمية المتميزة، ليأمل أن تكون لبنات جديدة في صرح البحث الحديثي، ودافعًا نحو مزيد من الاجتهاد والابتكار في خدمة السنة النبوية وعلومها، إنه سبحانه هو الموفِّق والهادي إلى سواء السبيل.