يأتي كتاب سنغافورة إفريقيا: التعليم في رواندا كرافد للنهوض الحضاري»، من تأليف أميمة بونخلة وعبد الرحيم النجوي، والصادر عن المركز الفضي للثقافة والإبداع سنة 2025م، باعتباره إضافة معرفية في حقل الدراسات المقارنة للتعليم وتجارب النهوض السياسي والاجتماعي. يشتغل المؤلفان على تجربة فريدة في القارة الإفريقية، تجربة استطاعت إعادة تأسيس الدولة من نقطة الانهيار، وجعلت من التعليم محورًا لإعادة البناء بدل أن يكون قطاعًا إداريًا منفصلًا عن مشروع الدولة.
يستعرض الكتاب التجربة الرواندية من لحظة الانهيار الكبرى سنة 1994م، حين وقعت الإبادة الجماعية، فانتهت البلاد إلى هاوية وجودية كادت تمحو ملامحها. ينقل المؤلفان تفاصيل النهوض الذي جاء لاحقًا بوصفه مشروعًا وطنيًا لا مجرد إجراءات تقنية، حيث أعادت رواندا تعريف الهوية الجماعية، وانتقلت من ثنائية «هوتو/توتسي» إلى هوية موحدة تتمحور حول: «رواندي قبل كل شيء». يبيّن هذا التحول أن السياسة الرواندية تعاملت مع التعليم باعتباره أداة لإعادة صياغة الوعي الجمعي وتحريره من الذاكرة الجريحة.
يمتد التحليل ليشمل جذور الأزمة، فيكشف كيف أسس الاستعمار الألماني والبلجيكي للانقسام الإثني، وكيف أدّت سياسة التصنيف العرقي إلى تفتيت المجتمع. يعرض الكتاب أن تجاوز هذه المأساة لم يكن ممكنًا دون إعادة نظر شاملة في وظيفة المدرسة، فجاءت المناهج الجديدة لتؤدي دورًا تربويًا في المصالحة وبناء السلم المجتمعي، ولتتحول المدرسة إلى فضاء يعيد إنتاج الإنسان الرواندي بشكل جديد قائم على المواطنة المشتركة.
يتناول المؤلفان التحول التربوي من خلال الانتقال إلى المناهج المبنية على الكفايات، وتطوير التكوين المهني، وإدماج التكنولوجيا الرقمية باعتبارها لغة العصر. يتتبع الكتاب مشاريع «مدارس الذكاء الرقمي» في كيغالي، ويفصّل كيف أصبحت رواندا مركزًا تكنولوجيًا متقدمًا، رغم محدودية مواردها الطبيعية. هذا الربط بين التعليم والتكنولوجيا جعل التجربة الرواندية موضع اهتمام دولي، خصوصًا بالنسبة لدول تبحث عن بدائل تنموية تعتمد على الابتكار بدل الثروات التقليدية.
يتعمّق الكتاب في تحليل العلاقة بين الجغرافيا والسياسة، ليبرز كيف تحوّلت الطبيعة الوعرة—بلد الألف تل—إلى مساحة لإعادة البناء. تستثمر الدولة الرواندية في ربط القرى بالمراكز الحضرية، وتسهيل حركة المواطنين، وبناء بنى تحتية تجعل المجال عنصرًا مساعدًا للوحدة بدل أن يكون جدارًا للعزلة. يصف المؤلفان هذا التوجه باعتباره شكلًا من أشكال «ترويض الجغرافيا» لصالح السلم والتنمية.
يمتد التحليل إلى البعد الجيوسياسي، فيقدّم رؤية لبلد صغير المساحة تحوّل إلى فاعل مهم في شرق إفريقيا، من خلال مشاركته في حفظ السلام، وانفتاحه على الاستثمار الدولي، وقدرته على تقديم نموذج مؤسساتي يثير اهتمام الكثير من الدول الإفريقية. يدرك المؤلفان أن القوة الناعمة الرواندية انطلقت أساسًا من إصلاح التعليم وبناء مواطن قادر على الانخراط في اقتصاد المعرفة.
تُكتب فصول الكتاب بلغة تجمع بين التوثيق والتحليل، بحيث لا يكتفي المؤلفان بعرض الوقائع، بل يربطانها بإشكالات أوسع تتعلق ببناء الدولة، والهويات، والعدالة الانتقالية، والاندماج الاجتماعي، واستراتيجيات ما بعد الصراع. ينفتح الكتاب كذلك على سؤال عربي ملحّ: كيف يمكن لمنظوماتنا التعليمية أن تتحوّل إلى مشاريع حضارية شاملة بدل الاكتفاء بإصلاحات جزئية؟ يقدم العمل إشارات أولية ودعوة إلى التفكير، وإن كان بعضهم قد يرى أنه محاولة أولية، إلا أنه في حقيقة الأمر يعد إنجازًا يُحسب للباحثين لندرة المراجع في هذا المجال، ولجرأة الاقتراب من نموذج إفريقي ما زال قليل التداول في الكتابات العربية.
يبلغ الكتاب مستوى مهمًا من النضج التحليلي، ويفتح فضاءً معرفيًا جديدًا في الدراسات العربية حول إفريقيا، إذ يتميّز بقوة أمثلته، وبسلاسة المزج بين المعطيات التاريخية والاختيارات التربوية. غير أنّ الميل الواضح إلى إضاءة جوانب النجاح في التجربة الرواندية يجعل الحاجة ملحّة إلى مساحة أوسع للنقد، خصوصًا في ما يتعلق بالمركزية السياسية، وحدود المشاركة الديمقراطية، وبعض الإكراهات الاجتماعية التي تواكب أي مشروع نهضوي سريع الوتيرة. مع ذلك، يظل الكتاب مساهمة رصينة في بناء معرفة عربية حول إفريقيا الصاعدة، ويقدّم تجربة رواندا باعتبارها نموذجًا يستحق الدراسة، لا من باب الانبهار، بل من باب التفكير في إمكان تحويل التعليم إلى قوة لإعادة تشكيل المجتمعات وفتح أبواب المستقبل.
