قراءة نقدية في كتاب «التعليم في دولة اليابان: درس من آسيا في أسس بناء الحضارة» للدكتورة أميمة بونخلة

عبد الرحيم النجوي

يمثل كتاب «التعليم في دولة اليابان: درس من آسيا في أسس بناء الحضارة» للدكتورة أميمة بونخلة مساهمة علمية رصينة ضمن الدراسات المقارنة التي تسعى إلى فهم البنى العميقة للنهضة اليابانية، ليس من زاوية الاقتصاد أو التقنية فحسب، بل من مدخل الرهان التربوي والمعرفي الذي أسس له جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية. يتتبّع الكتاب تطور المنظومة التعليمية اليابانية منذ عصر توكوغاوا ومرورًا بالتحولات الجذرية في عهد ميجي، وصولًا إلى السياسات التعليمية الحديثة، مبينًا كيف تمكّنت اليابان من إعادة صياغة علاقتها بالغرب دون فقدان لخصوصيتها الثقافية. وفي صلب هذا التحليل، تؤكد المؤلفة أن النهضة اليابانية لم تكن معجزة اقتصادية بل “مشروعًا تربويًا طويل النفس”، راهن على الإنسان واستثمر في بنائه معرفيًا وقيميًا، مستفيدًا من المقاربات البينية التي لا تفصل بين العلم والأخلاق والعمل.

يتميّز الطرح في الكتاب بتركيزه على ثلاثة محاور متكاملة: البعد الثقافي في التعليم، مركزية الأخلاق في التنشئة، والقدرة على المواءمة بين الأصالة والتحديث. تشير بونخلة، من خلال تحليلها لنظام التعليم الياباني، إلى أن هذا النموذج لم ينبنِ على وفرة الموارد بل على حسن تدبير الندرة، وهو ما يضفي على التجربة بُعدًا تربويًا عابرًا للخصوصيات الجغرافية. كما تضيء المؤلفة على خصوصية استعمال الأسطورة والتاريخ الرمزي في تشكيل الهوية التعليمية اليابانية، وهو توظيف مثير للانتباه يؤكد على أن المدرسة اليابانية ليست محايدة ثقافيًا، بل تؤدي دورًا حيويًا في تشكيل العصبية الوطنية (بالمعنى الخلدوني)، من خلال بث روح الانضباط والعمل الجماعي والولاء المشترك. وقد خصصت المؤلفة حيزًا مهمًا لتحليل “إصلاحات الميجي”، بوصفها لحظة تأسيسية أحدثت قطيعة مع البُنى الوراثية الإقطاعية، وأرست أسس مجتمع الجدارة القائم على الكفاءة والمعرفة.

ما يميز الكتاب، بعيدًا عن الانبهار الخطابي المعتاد بالتجربة اليابانية، هو أنه لا يقدّم وصفًا سطحيًا لنجاح تعليمي، بل يشتغل على تفكيك البنية التحتية الفكرية التي مكنت اليابان من إنتاج نموذج متماسك لا يفصل بين التعليم وبناء الحضارة. الكاتبة تُفهم القارئ أن الحداثة اليابانية لم تكن استنساخًا للنموذج الغربي، بل كانت تفعيلاً إبداعيًا للبينية الثقافية والمعرفية، إذ استعارت اليابان مفاهيم تقنية وإدارية من الغرب، لكنها قامت بتبيئتها ضمن نسقها القيمي واللغوي، دون الوقوع في فخ الاغتراب أو الذوبان الثقافي. في هذا المعنى، لا يدعو الكتاب إلى تقليد اليابان، بل إلى استلهام منطقها التربوي في بناء السياسات التعليمية، من خلال التركيز على الإنسان، واللغة، والهوية، والعمل.

تتجلى قيمة الكتاب أيضًا في نظرته النقدية للإصلاحات التعليمية في السياق العربي، حيث تشير بونخلة ضمنيًا إلى فشل العديد من التجارب العربية في الربط بين التعليم والتنمية الحضارية، بسبب غياب الرؤية، وضعف الإرادة السياسية، والانفصال بين التعليم والقيم. ولهذا تُعد هذه الدراسة دعوة صريحة لإعادة التفكير في التعليم العربي بوصفه مشروعًا حضاريًا، لا مجرد نظام إداري تقني. وبما أن المؤلفة اعتمدت على مراجع عربية وغربية متنوعة، وأحاطت بالسياق التاريخي والفلسفي والأنثروبولوجي للتعليم الياباني، فإن عملها يمثّل مرجعًا علميًا ثريًا، يربط بين الفكر والتربية، ويقدم إضافة نوعية للمكتبة التربوية بالعربية.

رغم القيمة العلمية البارزة التي يتمتع بها الكتاب، خصوصًا من حيث الربط بين التعليم وبناء المشروع الحضاري، فإن القارئ المتخصص قد يُلاحظ غلبة البعد الوصفي – أحيانًا – على بعض التحليلات، مما يجعل القارئ في حاجة إلى أدوات نظرية أشد عمقًا لفهم المسارات المعرفية للتجربة اليابانية. فعلى سبيل المثال، لم يتم التوسع بما يكفي في تحليل البُعد البيني للتعليم الياباني من حيث تداخل العلوم الإنسانية والاجتماعية مع التكوين العلمي والتقني. إن تعميق هذا الجانب كان سيفيد في الكشف عن سبب قدرة النظام التعليمي الياباني على إنتاج أطر قيادية تجمع بين الصرامة التقنية والبصيرة الأخلاقية.

كما يمكن الإشارة إلى أن الكتاب كان سيكون أكثر ثراء لو تم تقديم مقارنات مباشرة مع نظم تعليمية آسيوية أخرى (ككوريا الجنوبية أو سنغافورة)، لفهم ما إذا كانت التجربة اليابانية فريدة من نوعها أم أنها تنتمي إلى نموذج حضاري آسيوي أوسع. أيضًا، كان من المفيد تخصيص فصل مستقل لاستعراض التحولات المعاصرة التي يواجهها النظام التعليمي الياباني في ظل التحديات السكانية (الشيخوخة)، والتكنولوجية (الرقمنة)، والعولمية (الضغط على الهويات الثقافية). فالاقتصار على استعراض الماضي النهضوي وحده قد يمنح تصورًا مثاليًا للتجربة دون إبراز تعقيداتها الحديثة.

إضافة إلى ذلك، كان من الممكن تعزيز الجانب النظري من خلال الاستعانة بأدبيات نظرية رأس المال البشري أو نظرية النظم التربوية المقارنة، لتأطير استراتيجيات التعليم الياباني ضمن نماذج معرفية واضحة، مما يمنح العمل بعدًا تفسيريًا أعمق. ومن وجهة نظر أخرى، كان من الممكن تعميق القراءة النقدية بطرح تساؤلات حول كُلفة هذا النموذج التعليمي على المستوى النفسي والاجتماعي، مثل ارتفاع معدلات الانتحار بين الطلاب أو ضغط الأداء الأكاديمي، وهي أبعاد لا تظهر بوضوح في الصورة الإيجابية العامة التي رسمها الكتاب.

إن القراءة في تجربة اليابان التربوية كما عرضها هذا الكتاب، تكشف عن نموذج تربوي فريد، لا ينبني فقط على تطويع التكنولوجيا أو الانضباط المؤسسي، بل على رؤية فلسفية عميقة تضع الإنسان في قلب المشروع التربوي، وتربط بين التعليم والقيم، بين المعرفة والسلوك، وبين المحلي والكوني.

لقد أبرز الكتاب كيف أن النظام الياباني لا يكتفي بنقل المعارف، بل يعمل على تشكيل شخصية المتعلم من خلال ما يُعرف بالتعليم الشامل، الذي يمزج بين العقل والجسد والروح. وقد شكّلت الدراسات البينية، في هذا السياق، أداة مركزية في تجاوز المقاربات الاختزالية، والسعي نحو فهم مركب للعالم، يراعي التداخل بين الفنون والعلوم، بين الإنسان والطبيعة، وبين الحاضر والماضي.

تجربة اليابان، كما عرضها الكتاب، ليست مجرد تجربة تقنية قابلة للاستنساخ، بل هي ثمرة مسار طويل من الإصلاح، تداخلت فيه الفلسفة والثقافة والسياسة، وانبثقت منه رؤية للتربية تجعل من المدرسة فضاءً للمعنى، لا مجرد قناة للوظيفة.

من هنا، فإن أهم درس يمكن استخلاصه من هذا الكتاب، هو أن جودة التعليم لا تقاس فقط بالمؤشرات الرقمية، بل بمدى قدرته على صون القيم، ورعاية التفكير النقدي، وبناء إنسان متوازن قادر على العيش في عالم متعدد ومضطرب.